فصل: ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 وكان أحمد بن طولون رم شيئًا منها وجعل في أعلاه قبة من الخشب ليصعد إليها من داخلها وهي مبسوطة موربة بغير درج وفي الجهة الشمالية من المنارة كتابة برصاص مدفون بقلم يونانيّ طول كلّ حرف ذراع في عرض شبر ومقدارها على جهة الأرض نحو من مائة ذراع وماء البحر قد بلغ أصلها وقد كان تهدّم أحد أركانها الغربية مما يلي البحر‏.‏فبناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وبينها وبين مدينة الإسكندرية في هذا الوقت نحو من ميل وهي على طرف لسان من الأرض قد ركب البحر جنبتيه وهي مبنية على فم ميناء الإسكندرية وليس بالميناء القديم لأنّ القديم في المدينة العتيقة لا ترسي فيه المراكب لبعده عن العمران والميناء هو الموضع الذي ترسي فيه مراكب البحر‏.‏

وأهل الإسكندرية يخبرون عن أسلافهم أنهم شاهدوا بين المنارة وبين البحر نحوًا مما بين المدينة والمنارة في هذا الوقت فغلب عليه ماء البحر في المدّة اليسيرة وأنّ ذلك في زيادة قال‏:‏ وتهدّم في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلثمائة نحو من ثلاثين ذراعًا من أعاليها بالزلزلة التي كانت ببلاد مصر وكثير من بلاد الشام والمغرب في ساعة واحدة على ما وردت به علينا الأخبار المتواترة ونحن بفسطاط مصر وكانت عظيمة جدًّا مهولة فظيعة أقامت نحو نصف ساعة زمانية وذلك لنصف يوم السبت لثمان عشرة خلت من هذا الشهر وهو الخامس من كانون الآخر والتاسع من طوبة وكان لهذه المنارة مجمع في يوم خميس العدس يخرج سائر أهل الإسكندرية إلى المنارة من مساكنهم بمآكلهم ولا بد أن يكون فيها عدس فيفتح باب المنار ويدخله الناس فمنهم من يذكر اللّه ومنهم من يصلي ومنهم من يلهو ولا يزالون إلى نصف النهار ثم ينصرفون ومن ذلك اليوم يحترس على البحر من هجوم العدوّ‏.‏

وكان في المنارة قوم مرتبون لوقود النار طول الليل فيقصد ركاب السفن تلك النار على بعد فإذا رأى أهل المنار ما يريبهم أشعلوا النار من جهة المدينة فإذا رآها الحرس ضربوا الأبواق والأجراس فيتحرّك عند ذلك الناس لمحاربة العدوّ‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ المنار كان بعيدًا عن البحر فلما كان في أيام قسطنطين بن قسطنطين هاج البحر وغرّق مواضع كثيرة وكنائس عديدة بمدينة الإسكندرية ولم يزل يغلب عليها بعد ذلك ويأخذ منها شيئًا بعد شيء‏.‏

وذكر بعضهم‏:‏ أنه قاسه فكان مائتي ذراع وثلاثة وثلاثين ذراعًا وهي ثلاث طبقات الطبقة الأولى‏:‏ مربعة وهي مائة وإحدى وعشرون ذراعًا ونصف ذراع والطبقة الثانية‏:‏ مثمنة وهي‏:‏ إحدى وثمانون ذراعًا ونصف ذراع والطبقة الثالثة‏:‏ مدوّرة وهي إحدى وثلاثون ذراعًا ونصف ذراع‏.‏

وذكر ابن جبير في رحلته‏:‏ أن منار الإسكندرية يظهر على أزيد من سبعين ميلًا وأنه ذرع أحد جوانبه الأربعة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة فأناف على خمسين ذراعًا وأنّ طول المنار أزيد من مائة وخمسين قامة وفي أعلاه مسجد يتبرّك الناس بالصلاة فيه‏.‏

وقال ابن عبد الحكم‏:‏ ويقال‏:‏ إنّ الذي بنى منار الإسكندرية كلوباطرة الملكة وهي التي ساقت خليجها حتى أدخلته الإسكندرية ولم يكن يبلغها إنما كان يعدل من قرية يقال لها‏:‏ كسا قبالة الكريون فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية وهي التي بلطت قاعه‏.‏

ولما استولى أحمد بن طولون على الإسكندرية بنى في أعلى المنار قبة من خشب فأخذتها الرياح وفي أيام الظاهر بيبرس تداعى بعض أركان المنار وسقط فأمر ببناء ما انهدم منه في سنة ثلاث وسبعين وستمائة وبنى مكان هذه القبة مسجد أو هدم في في الحجة سنة اثنتين وسبعمائة عند حدوث الزلزلة ثم بنى في شهور سنة ثلاث وسبعمائة على يد الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وهو باق إلى يومنا هذا وللّه در الوجيه الدرويّ حيث يقول في منار الإسكندرية‏:‏ لبست بها بردًا من الإنس صافيًا فكان بتذكار الأحبة معلما وقد ظللتني من ذراها بقبة ألاحظ فيها من صحابي أنجما فخيِّل أنّ البحر تحتي غمامة وأني قد خيمت في كبد السما وقال ابن قلاقس من أبيات‏:‏ ومنزلٌ جاوز الجوزاء مرتقيا كأنما فيه للنسرين أوكار راسي القرارة سامي الفرع في يده للنون والنور أخبار وأخبار أطلقت فيه عنان النظم فاطردت خيل لها في بديع الشعر مضمار وقال الوزير أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عبد ربه‏:‏ لله در منار إسكندرية كم يسمو إليه على بعدٍ من الحدق من شامخ الأنف في عرنينه شمم كأنه باهت في دارة الأفق للمنشآت الجواري عند رؤيته كموقع النوم في أجفان ذي أرق وقال عمر بن أبي عمر الكندي في فضائل مصر‏:‏ ذكر أهل العلم أن المنارة كانت في وسط الإسكندرية حتى غلب عليها البحر فصارت في جوفه ألا ترى الأبنية والأساسات في البحر وقال عبد اللّه بن عمر‏:‏ وعجائب الدنيا أربعة‏:‏ مرآة كانت معلقة بمنارة الإسكندرية فكان يجلس الجالس تحتها فيرى مَنْ بالقسطنطينية وبينهما عرض البحر وذكر الثلاثة‏.‏

 

ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب

قال القضاعيّ‏:‏ ومن عجائب مصر‏:‏ الإسكندرية وما بها من العجائب فمن عجائبها‏:‏ المنارة والسواري والملعب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة ثم يرمون بأكرة فلا تقع في حجر أحد إلا ملك مصر وحضر عيدًا من أعيادهم عمرو بن العاص فوقعت الأكرة في حجره فملك البلد بعد ذلك في الإسلام ثم حضر هذا الملعب ألف ألف من الناس فلا يكون فيهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه ثم إن قُرئ كتاب سمعوه جميعًا أو لعب لون من اللعب رأوه عن آخرهم لا يتظالمون فيه بأكثر من مراتب العلية والسفلية‏.‏

وقال ابن عبد الحكم‏:‏ فلما كانت سنة ثمان عشرة من الهجرة وقدم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الجابية خلا به عمرو بن العاص واستأذنه في المسير إلى مصر وكان عمرو قد دخل في الجاهلية مصر وعرف طرقها ورأى كثرة ما فيها وكان سبب دخوله إياها أنه قدم إلى بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش فإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة في بيت المقدس فخرج في بعض جبالها يسيح وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه وكانت رعية الإبل نوبًا بينهم فبينا عمرو يرعى إبله إذ مرّ به ذلك الشماس وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحرّ فوقف على عمرو فاستسقاه فسقاه عمرو من قربة له فشرب حتى روي ونام الشماس مكانه وكانت إلى جنب الشماس حيث نام حفرة فخرجت منها حية عظيمة فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها فلما استيقظ الشماس نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه اللّه منها فقال لعمرو‏:‏ ما هذه‏.‏

فأخبره عمرو أنه رماها فقتلها فأقبل إلى عمرو فقبّل رأسه وقال‏:‏ قد أحياني الله بك مرّتين‏:‏ مرّة من شدّة العطش ومرّة من هذه الحية فما أقدمك هذه البلاد‏.‏

قال‏:‏ قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا فقال له الشماس‏:‏ وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك قال‏:‏ رجائي أن أصيب ما اشتري به بعيرًا فإني لا أملك إلا بعيرين فآمل أن أصيب بعيرًا آخر فتكون ثلاثة أبعرة فقال له الشماس‏:‏ أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي‏.‏

قال‏:‏ مائة من الإبل فقال له الشماس‏:‏ لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير قال‏:‏ تكون ألف دينار فقال له الشماس‏:‏ إني رجل غريب في هذه البلاد وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس وأسيح في هذه الجبال شهرًا جعلت ذلك نذرًا على نفسي وقد قضيت ذلك وأنا أريد الرجوع إلى بلادي فهل لك أن تتبعني إلى بلادي ولك عليّ عهد اللّه وميثاقه أن أعطيك ديتين لأنّ اللّه عز وجل أحياني بك مرّتين فقال له عمرو‏:‏ أين بلادك‏.‏

قال‏:‏ مصرفي مدينة يقال لها‏:‏ الإسكندرية فقال له عمرو‏:‏ لا أعرفها ولم أدخلها قط فقال له الشماس‏:‏ لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها فقال له عمرو‏:‏ تفي لي بما تقول ولي عليك بذلك العهد والميثاق فقال له الشماس‏:‏ نعم لك واللّه عليّ العهد والميثاق أن أفي لك وأن أردّك إلى أصحابك فقال له عمرو‏:‏ كم يكون مكثي في ذلك قال‏:‏ شهرًا تنطلق معي ذاهبًا عشرًا وتقيم عندنا عشرًا وترجع في عشر ولك عليّ أن أحفظك ذاهبًا وأن أبعث معك من يحفظك راجعًا فقال له عمرو‏:‏ انظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك فانطلق عمرو إلى أصحابه فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس وقال لهم‏:‏ تقيمون عليّ حتى أرجع إليكم ولكم عليّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به فقالوا‏:‏ نعم وبعثوا معه رجلًا منهم فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس حتى انتهوا إلى مصر فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه فقال عمرو للشماس‏:‏ ما رأيت مثل ذلك ومضى إلى الإسكندرية فنظر عمرو إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة وجودة بنائها وكثرة أهلها فازداد عجبًا ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدًا فيها عظيمًا يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ولهم كرة من ذهب مكالة يترامى بها ملوكهم وهم يتلقونها بأكمامهم وفيما اختبروا من تلك الكرة على ما وصفها من مضى منهم أنها من وقعت الكرة في كمه واستقرّت فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس حيث يترامون بالكرة وهم يتلقونها بأكمامهم فرمى بها رجل منهم فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو فعجبوا من ذلك وقالوا‏:‏ ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرّة ا أترى هذا الأعرابيّ يملكنا‏.‏

هذا ما لا يكون أبدًا وإنّ ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية وأعلمهم أنّ عمرًا أحياه مرّتين وأنه قد ضمن له الذي دينار وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم ففعلوا ودفعوها إلى عمرو فانطلق عمرو وصاحبه وبعث معهما الشماس دليلًا ورسولًا وزوّدهما وأكرمهما حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها أموالًا فلما رجع عمرو إلى أصحابه دفع إليهم بيما بينهم ألف دينار وأمسك لنفسه ألفًا قال عمرو‏:‏ وكان أوّل مال اعتقدته وتأثلته‏.‏

ذكر عمود السواري هذا العمود حجر أحمر منقط وهو من الصوّان الماتع كان حوله نحو أربعمائة عمود كسرها قراجا والي الإسكندرية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ورماها بشاطئ البحر ليوعر على العدو سلوكه إذا قدموا ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يُدرس به الحكمة وأنه كان دار علم وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويقال‏:‏ إنّ ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعًا وقطره خمسة أذرع وذكر بعضهم‏:‏ أن طوله بقاعدتيه‏:‏ اثنان وستون ذراعًا وسدس ذراع وهو على نشز طوله ثلاثة وعشرون ذراعًا ونصف ذراع فجملة ذلك خمسة وثمانون ذراعًا وثلثا ذراع وطول قاعدته السفلي اثنا عشر ذراعًا وطول القاعدة العليا سبعة أذرع ونصف‏.‏

قال المسعوديّ‏:‏ وفي الجانب الغربيّ من صعيد مصر جبل رخام عظيم كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها وكانوا يحملون ما عملوا بعد النقر فأما العمد والقواعد والرؤوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية ومنها حجارة الطواحين فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين ومنها العمد التي بالإسكندرية والعمود بها الضخم الكبير لا يعلم بالعالم عمود مثله وقد رأيت في جبل أسوان أخا هذا العمود وقد هُندس ونقر ولم يصل من الجبل ولم يحمل ما ظهر منه وإنما كانوا ينتظرون به أن يفصل من الجبل ثم يحمل إلى حيث يريد القوم انتهى‏.‏

وكان بالإسكندرية من العمد العظام وأنواع الحجارة والرخام الذي لا تُقَلّ القطعة منه إلا بألوف من الناس وقد علقت بين السماء والأرض على فوق المائة ذراع وفوق رؤوس أساطين دائر الأسطوانة ما بين الخمسة عشر ذراعًا إلى العشرين ذراعًا والحجر فوقه عشرة أذرع في عشرة أذرع في سمك عشرة أذرع بغرائب الألوان‏.‏

وكان بالإسكندرية قصر عظيم لا نظير له في معمور الأرض على ربوة عظيمة بإزاء باب البلد طوله خمسمائة ذراع وعرضه على النصف من ذلك وبابه من أعظم بناء وأتقنه كل عضادة منه حجر واحد وعتبته حجر واحد وكان فيه نحو مائة أسطوانة وبإزائه أسطوانة عظيمة لم يسمع بمثلها غلظها ستة وثلاثون شبرًا وعلوها بحيث لا يدرك أعلاها قاذف حجر وعليها رأس محكم الصناعة يدل على أنه كان فوق ذلك بناء وتحتها قاعدة حجر أحمر محكم الصناعة عرض كل ضلع منه عشرون شبرًا في ارتفاع ثمانية أشبار والأسطوانة منزلة في عمود من حديد قد خرقت به الأرض فإذا اشتدّت الرياح رأيتها تتحرّك وربما وضع تحتها الحجارة فطحنتها لشدّة حركتها وكانت هذه الأسطوانة إحدى عجائب الدنيا وقد زعم قوم أنها مما عمله الجنّ لسليمان بن داود عليهما السلام كما هي عادتهم في نسبة كل ما يستعظمون عمله إلى أنه من صنيع الجنّ وليس كذلك بل كانت مما عمله القدماء من أهل مصر‏.‏

وكان في وسطه قبة ومن حولها أساطين وعلى الجميع قبة من حجر واحد رخام أبيض كأحسن ما أنت راءَ من الصنائع‏.‏

ويقال‏:‏ إن بعض ملوك مصر دخل الإسكندرية فأعجبه هذا القصر وأراد أن يبني مثله فجمع الصناع والمهندسين ليقيموا له قصرًا عظيمًا على هيئته فما منهم إلا من اعترف بعجزه عن مثله إلا شيخًا منهم فإنه التزم أن يصنع مثله فسَر الملك ذلك وأذن له في طلب ما يحتاج إليه من المؤن والآلات والرجال فقال‏:‏ ائتوني بثورين مطيقين وعجلة كبيرة فللحال أتي بذلك فمضى إلى المقابر القديمة وحفَر منها قبرًا أخرج منه‏:‏ جمجمة عظيمة رفعها عدّة من الرجال على العجلة فما جرّها الثوران مع موّتهما إلا بعد جهد وعناء فلما وقف بها بين يدي الملك قال‏:‏ أصلح اللّه سيدنا إن أتيتني بقوم رؤوسهم مثل هذا الرأس عملت لك مثل هذا القصر فتيقن الملك عند ذلك عجز أهل زمانه عن إقامة مثل ذلك القصر‏.‏

وقد ذكر‏:‏ أنه كان بالإسكندرية ضرس إنسان عند قصاب يزن به اللحم زنته ثمانية أرطال‏.‏

ويقال‏:‏ إنّ عمود السواري الموجود الآن خارج مدينة الإسكندرية أحد سبعة أعمدة أتي بأحدها البتون بن مرّة العادي وهو يحمله تحت إبطه من جبل بريم الأحمر قبليّ أسوان إلى الإسكندرية فانكسر ضلعه لأنه كان ضعيف القوى في قومه فشق ذلك على يعمر بن شدّاد بن عاد وقال‏:‏ ليتني فديته بنصف ملكي وجاء بعمود آخر جحدر بن سنان الثموديّ وكان قويًا فحمله من أسوان تحت إبطه وجاء بقية رجالهم كل رجل بعمود فأقام العمد السبعة الجارود بن قطن المؤتفكي وكان بناءها بعد أن اختاروا لها طالعًا سعيدًا كما هي عادتهم في عامّة أعمالهم وقد ذكر غير واحد أن الصخور في القديم من الدهر كانت تلين فعمل منها أعمدة ناعط ومارب وبينون وماثر اليمن وأعمدة دمشق ومصر ومدين وتدمر وإنّ كل شيء كان يتكلم قال أمية بن أبي الصلت‏:‏ وإذ هم لا لبوس لهم عراة وإذ صخر السلام لهم رطاب وقال قوم‏:‏ عمود السواري من جملة أعمدة كانت تحمل رواقًا يقال له‏:‏ بيت الحكمة وذلك حيث انتهت علوم أهل الغرب إلى خمس فرق وهم‏:‏ أصحاب الرواق هذا وأصحاب الأسطوانة وكانوا ببعلبك وأصحاب المظال وهم بأنطاكية وأصحاب البرابي وكانوا بصعيد مصر والمشاؤون وكانوا بمقدونية وكأني بمن قلّ علمه ينكر عليّ إيراد هذا الفصل ويراه من قبيل المحال ومما وضعه القصاص ويجزم بكذبه فلا يوحشنك حكايتي له واسمع قول الله تعالى عن عاد قوم هود‏:‏ ‏"‏ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة ‏"‏ الأعراف 69 أي طولًا وعظم جسم‏.‏

قال عبد اللّه بن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعًا وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم وقيل‏:‏ على خلق قوم نوح وقال وهب بن منبه‏:‏ كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكانت عين الرجل منهم تفرخ فيها السباع وكذلك مناخرهم‏.‏

وروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ إنه قال‏:‏ إن كان الرجل من قوم عاد ليحمل المصراعين لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يطيقوه وإن كان أحدهم ليغمز بقدمه الأرض فيدخل فيها‏.‏

وروى عبد اللّه بن لهيعة عن يزيد بن عمرو المعافريّ عن ابن بجرة قال‏:‏ استظل سبعون رجلًا من قوم موسى عليه السلام في قحف رجل من العماليق‏.‏

وعن زيد بن أسلم‏:‏ بلغني أنّ الضبعة وأولادها ربين في حجاج عين رجل من العماليق وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ‏"‏ الفجر 8‏.‏

قال المبرّد‏:‏ وقولها يعني الخنساء‏:‏ رفيع العماد إنما تريد الطول يقال‏:‏ رجل معمد‏:‏ يريد طولًا ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إرم ذات العماد ‏"‏ أي‏:‏ الطوال‏.‏

وقال البغويّ‏:‏ سموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمدة سيارة وهو قول قتادة ومجاهد والكلبيّ ورواية عطاء عن ابن عباس وقال بعضهم‏:‏ سموا ذات العماد لطول قاماتهم قال ابن عباس‏:‏ يعني طولهم مثل العماد قال مقاتل‏:‏ كان طول أحدهم اثني عشر ذراعًا‏.‏

وفي كشاف الزمخشريّ‏:‏ لم يخلق مثلها مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم وقد ذكر غير واحد أنه وجد في خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد كنز بمصر فيه ضلم إنسان طوله أربعة عشر شبرًا في عرض ثلاثة أشبار‏.‏

واعلم أن أعين بني آدم ضيقة وقد نشأت نفوسهم في محل صغير فإذا حدّث القوم بما يتجاوز مقدار عقولهم أو مبلغ أجسامهم مما ليس له عندهم أصل يقيسونه على إلا ما يشاهدونه أو يألفونه عجلوا إلى الارتياب فيه وسارعوا إلى الشك في الخبر عنه إلا من كان معه علم وفهم فإنه يفحص عما يبلغه من ذلك حتى يجد دليلًا على قبوله أو ردّه وكيف يردّ مثل هذه الأخبار‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ حلق الله آدم طوله ستون ذراعًا في السماء ‏"‏ ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن‏.‏

وذكر محمد بن عبد الرحيم بن سليمان بن ربيع القيسيّ الغرناطيّ في كتاب تحفة الألباب قال‏:‏ نقل الشعبيّ في كتاب سير الملوك‏:‏ أن الضحاك بن علوان لما هرب منه لام بن عاد إلى ناحية الشمال أرسل في طلبه أميرين مع كل أمير طائفة من الجبارين خرج أحدهما قاصدًا إلى بلغار والآخر إلى باشقرد فأقام أولئك الجبارون في أرض بلغار وفي باشقرد‏.‏

قال الإقليشيّ‏:‏ وقد رأيت صورهم في باشقرد ورأيت قبورهم بها فكان مما رأيته ثنية أحدهم طولها‏:‏ أربعة أشبار وعرضها شبران وقد كان عندي في باشقرد نصف أصل الثنية أخرجت لي من فكه الأسفل فكان عرضها شبرًا ووزنها ألف مثقال ومائتا مثقال أنا وزنتها بيدي وهي الآن في داري في باشقرد وكان دور فك ذلك العاليّ سبعة عشر ذراعًا وفي بيت بعض أصحابي في باشقرد عضد أحدهم طوله ثمانية وعشرون ذراعًا وأضلاعه كل ضلع عرضه ثلاثة أشبار وأكثر كاللوح الرخام وأخرج إليّ نصف رسغ يد أحدهم فكنت لا أقدر أن أرفعه بيد واحدة حتى أرفعه بيديّ جميعًا قال‏:‏ ولقد رأيت في بلد بلغار سنة ثلاثين وخمسمائة من نسل العاديين رجلًا طوالًا كان طوله أكثر من سبعة أذرع وكان يُسمى‏:‏ دنقي وكان يأخذ الفرس تحت إبطه كما يأخذ الإنسان الطفل الصغير وكان إذا وقع القتال بتلك الناحية يقاتل بشجرة من شجر البلوط يمسكها كالعصا في يده لو ضرب بها الفيل قتله وكان خيِّرًا متواضعًا كلما التقاني سلم عليّ ورحب بي وأكرمني وكان رأسي لا يصل إلى حقوه وكان له أخت على طوله رأيتها في قال لي القاضي يعقوب بن النعمان يعني قاضي بلغار‏:‏ إن هذه المرأة الطويلة العادية قتلت زوجها وكان اسمه آدم وكان من أقوى أهل بلغار ضمته إلى صدرها فكسرت أضلاعه فمات من ساعته‏.‏

قال‏:‏ ولم يكن في بلغار حَمَّام تسعهم إلا حمَّام واحدة واسعة الأبواب انتهى‏.‏

وقد حدّثني الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفريابي عن أبيه‏:‏ أنه شاهد قبرًا احتفر بمدينة قرطاجنة من إفريقية فإذا جثة رجل قدر عظيم رأسه كثورين عظيمين ووجد معه لوح مكتوب بالقلم المسند وهو قلم عاد وحروفه مقطعة ما نصه‏:‏ أنا كوش بن كنعان ابن الملوك من آل عاد ملكت بهذه الأرض ألف مدينة وبنيت بها على ألف بكر وركبت من الخيل العتاق سبعة آلاف حمر وصفر وشهب وبيض ودهم ثم لم يغن عني ذلك شيئًا أو جاءني صائح فصاح بي صيحة أخرجتني من الدنيا فمن كان عاقلًا ممن جاء بعده فليعتبربي وأنشد‏:‏ يا واقفًا يرعى السهى برسم ربع قد وهى قف واستمع ثم اعتبر إن كنت من أهل النهي بالأمس كنا فوقها واليوم صرنا تحتها قال‏:‏ فأمر السلطان أبو بكر بن يحيى الحفصي صاحب تونس بطمه فَطَم القبر‏.‏

قال مؤلفه رحمه اللّه تعالى‏:‏ وأنا أدركت شيئًا من ذلك وهو أنه ترافع في بعض الأيام طائفة من الحجارين إلى السلطان الملك الظاهر برقوق أعوام بضع وتسعين وسبعمائة وقد اختلفوا على مال وجدوه بجبل المقطم وهو أنهم كانوا يقطعون الحجارة من مغار فيما يلي قلعة الجبل من بحريها فانكشف لهم حجر أسود عليه كتابة فاجتمعوا على قطع ما بين يدي هذا الحجر طمعًا في وجود مال فانتهى بهم القطع إلى عمود عظيم قائم في قلب الجبل فلعجلتهم أقبلوا بمعاولهم عليه حتى تكسر قطعًا فإذا هو مجوّف وإنسان قائم على قدميه بطوله وتناثر لهم من جهة رأسه دنانير كثيرة فاقتسموها وتنافسوا في قسمتها واختلفوا حتى اشتهر أمرهم وترافعوا إلى السلطان فبعث من كشف المغار فوجد الحجر والعمود وقد تكسر فأخذ منهم ما وجد بأيديهم من الدنانير ولم يجد من يعرف ما قد كتب على الحجر وتسامع الناس بالخبر فأقبلوا إلى المغار وعبثوا برمّة الميت فأخبرني من شاهد سنًا من أسنان هذا الميت أنها سوداء بقدر الباذنجانة وإن عظم ساقه فيما بين قدمه إلى ركبته خمسة أذرع فيجيء هذا من حساب طوله عشرين ذراعًا وأزيد ودماغ سنّ واحدة من أسنانه في قدر الباذنجانة ما هو إلا كالقبة الكبيرة وأخبرني السيد الشريف قاضي القضاة بدمشق شهاب الدين أحمد بن عليّ بن إبراهيم الحسينيّ المعروف‏:‏ بابن عدنان وبابن أبي الجن‏:‏ أنه وقف في سنة أربع عشرة وثمانمائة بمقبرة باب الصغير من دمشق على قبر ليدفن فيه ميت لهم فلما تهيأ القبر ولم يبق إلا أن يُدلى فيه الميت انخسف وخرج من الخسف ذباب كثير كبار زرق الألوان حتى كادت تظلهم فنزل الحفار في الخسف فإذا قبر طوله اثنان وعشرون ذراعًا وفيه بطوله ميت قد صار كالرماد‏.‏

وأخبرني أيضًا‏:‏ أنه شاهد بهذه المقبرة ضرس إنسان وله ثلاث شعب وقد سقطت منه قطعة وهو في قدر البطيخة وأنه وزن بحضرته فبلغ رطلين وتسع أواقي بالرطل الشامي وإنّ القطعة التي انكسرت منه نحو أوقيتين بالشامي فيكون على هذا زنة هذا الضرس نحو اثني عشر رطلًا بالمصريّ واللّه تعالى أعلم‏.‏

 

ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية قال أبو عمرو الكنديّ‏:‏ أجمع الناس أنه ليس في الدنيا مدينة على ثلاث طبقات غير الإسكندرية ولما دخل عبد العزيز بن مروان الإسكندرية سأل رجلًا من علماء الروم عنها وعن عدد أهلها فقال‏:‏ واللّه أيها الأمير ما أدرك علم هذا أحد من الملوك والذي أخبرك كم كان فيها من اليهود فإن ملك الروم أمر بإحصائهم فكانوا ستمائة ألف‏.‏

قال‏:‏ فما هذا الخراب الذي في أطرافها قال‏:‏ بلغني عن بعض ملوك فارس حين ملكوا مصر أنه أمر بفرض دينار على كل محتلم لعمران الإسكندرية فأتاه كبراء أهلها وعلماؤهم وقالوا‏:‏ أيها الملك لا تتعب فإن الإسكندرية أقام الإسكندر على بنائها ثلثمائة سنة وعمرت ثلثمائة سنة وإنها لخراب منذ ثلثمائة سنة ولقد أقام أهلها سبعين سنة لا يمشون فيها نهارًا إلا بخرق سود في أيديهم خوفًا على أبصارهم من شدّة بياضها‏.‏

ومن فضائلها ما قاله بعض المفسرين من أهل العلم‏:‏ أنها المدينة التي وصفها اللّه عز وجلّ في كتابه العزيز فقال‏:‏ ‏"‏ إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ‏"‏ الفجر 8‏.‏

قال أحمد بن صالح‏:‏ قال لي سفيان بن عيينة‏:‏ يا مصريّ أين تسكن‏.‏

قلت‏:‏ أسكن الفسطاط فقال‏:‏ أتاني الإسكندرية‏.‏

قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ تلك كنانة الله يجعل فيها خيار سهامه‏.‏